لنشر عملك بالمدونة Ahmedtoson200@yahoo.com



الجمعة، 8 ديسمبر 2017

"لأني أسد " قصة للأطفال بقلم: طلال حسن



لأني  أسد
قصة للأطفال
بقلم: طلال حسن

     " 1 "
ــــــــــــــــــــ
   عندما أعود الآن بذاكرتي إلى الوراء ، وأراجع علاقتي بأبي الأسد ، ملك الغابة ، لا أذكر أن علاقتي به كانت جيدة في يوم من الأيام .
وعلى العكس من أبي ، كانت أمي اللبؤة ، ترعاني رعاية خاصة ، وتحبني حتى أكثر من أختيّ اللبؤتين الصغيرتين المدللتين .
ورغم ذلك ، لم أشعر بأن أبي الأسد ، ملك الغابة ، كان يكرهني ، أو لا يريدني إلى جانبه ، حتى وقفتُ ذات يوم ، فوق المرتفع المطل على الوادي ، وكما يفعل أبي الأسد ، زأرتُ بأعلى صوتي : آآآآآ  .
وبقدر ما بدا الفرح والزهو على أمي ، أمامي حماسي وزئيري المرتفع ، لاح أبي عابساً ، مستاء ، وقال لي غاضباً : كفى ، لا تنهق هكذا .
لم أفهم ما قصده أبي ، فالتفتُ إلى أمي ، وسألتها : ما معنى .. تنهق ؟
وكتمتْ أمي ضحكتها ، ثم قالت : دعكَ من أبيك ، إن زئيرك مرتفع ، قويّ ، جميل .
وبعد أن غادرت الأجمة ، التي ولدت فيها ، والتي يعيش فيها أبي الأسد ، ملك الغابة ، ومعه تعيش أمي اللبؤة الحبيبة ، وأختاي المدللتين ، عرفت أنّ معنى كلمة " تنهق " ، التي قالها لي أبي ، كانت صوت .. ليس الأسد أو النمر أو الفيل بل صوت .. الحمار .

     " 2 "
ــــــــــــــــــــ
   قبيل منتصف نهار اليوم التالي ، جاءت أمي بغزال ضخم ، وتوقفنا أنا وأختايَ ننظر إليها ، وقد بدأت بطوننا تقرقر من الجوع ، فنحن لم نأكل شيئاً منذ يومين ، لكن أمي اقتربت من أبي " ملك الغابة " ، الرابض تحت الشجرة الضخمة ، ووضعت الغزال أمامه ، وانسحبت بهدوء لتجلس إلى جانبنا .   
وأكل أبي " الأسد " ، حصته من الغزال ، ويا لها من حصة ، لا عجب فهي حصة أسد ، وللأسد " ملك الغابة " حصته الخاصة ، التي لا يحدها حدود ، ولا يناقشه فيها أحد مهما كان .
وبعد أن امتلأ ، ولم يعد في جوفه متسع للقمة أخرى ، ألقى نظرة سريعة علينا ، ثم مضى مبتعداً ، وتمدد تحت شجرة قريبة ، فالتفتت أمنا اللبؤة إلينا ، وهمست قائلة : هيا نأكل ، لكن بهدوء ، فأبوكم سيغفو قليلاً .
وربما لأني أسد مثل أبي ، رغم صغر سني ، كما تراني أمي ، وهذا ما لا يراه أبي " ملك الغابة " ، زاحمتُ أختيّ على الطعام ، ويبدو أن أبي " ملك الغابة " كان يراقبني ، فزأر قائلاً : آآآآآ .. دعهم يأكلون ، انظر إلى نفسكَ ، صرت ضخما كالثور ، لكنك مازلت تعتمد في طعامكَ على أمكَ .
توقفت عن تناول الطعام ، ونظرت إلى أبي " ملك الغابة " ، فنهض واقفاً ، وحدجني بنظرة غاضبة ، وقال : اغرب عن وجهي ، اغرب ، لم تعد صغيراً ، ومكانك لم يعد هنا بيننا .
أشحتُ بعينيّ عن أبي " ملك الغابة " ، وتراجعت متألماً ، ثم مضيت بعيداً عن الأجمة ، وأويت إلى شجرة ضخمة ، تطل على الجدول ، وربضت في ظلها ، ودمائي تغلي من الغضب .
غربت الشمس ، وحلّ الظلام ، وقبيل منتصف الليل ، ولم أكن قد نمت ، وكيف أنام والحزن والغضب لم يفارقاني لحظة واحدة ، وتناهى إليّ دبيب أقدام خفيفة تقترب مني ، ورغم ضياء القمر الشحيح الشاحب ، عرفت أنها أمي ، ولاحت أمي قادمة ، وجلست على مقربة مني ، دون أن تتفوه بكلمة واحدة .
ورفعت عينيّ ، ونظرت إلى أمي ، وبدا لي أنها حزينة ، فقلت لها : لا أفهم ما يجري ، يا أمي .
فردت أمي قائلة : أبوك لا يكرهك ، يا بنيّ .
وبشيء من التأثر ، قلت : أنتِ ترين موقفه مني في الفترة الأخيرة .
وربتت أمي على لبدتي ، التي بدأت تظهر مؤخراً حول عنقي ، وقالت : أنت أسد الآن ، يا بنيّ ، لقد كبرت ، ولم تعد شبلاً صغيراً .    
ولذت بالصمت لحظة ، ثم قلت : مهما يكن ، لن يراني أبي هنا بعد الآن .

     " 3 "
ــــــــــــــــــــ
   طوال اليومين التاليين ، تجولتُ في محيط الأجمة ، ورغم حنيني إلى أمي ، وإلى أختيّ المدللتين أيضاً ، إلا أنني لم أفكر ، ولو لحظة واحدة ، في الاقتراب من العرين ، لقد قلت لأمي ، إنني لا أريد أن أرى أبي ثانية ، ولن أراه أبداً .
وتوقفتُ أكثر من مرة ، فوق تلّ مرتفع ، عند طرف الغابة ، وتطلعت عبر سهل واسع ، إلى الأفق البعيد ، حيث تأوي الشمس ، وتختفي طول الليل .
وقبيل غروب شمس هذا اليوم ، أويت إلى شجرة ضخمة ، وربضت تحتها أنظر إلى قرص الشمس ، وهو يغيب شيئاً فشيئاً وراء الأفق .
وانتبهت إلى وقع أقدام خفيفة ورائي ، أهي أمي ؟ ونهضت واقفاً ، والتفت نحو مصدر الصوت ، نعم ، إنها أمي نفسها ، تحمل بين أسنانها قطعة كبيرة من لحمل عجل فتيّ .
وتقدمت أمي مني ، ووضعت قطعة اللحم الكبيرة أمامي ، وقالت بصوتها الأمومي : كلْ أيها الأسد .
ونظرت إليها صامتاً ، فتابعت قائلة : اصطدت هذا العجل اليوم ، واشتهيت لك هذه القطعة .
لم أمدّ يدي إلى قطعة اللحم ، وقلت : شكراً ، يا أمي ، إنني شبع .
وتساءلت أمي فرحة : اصطدت !
أجبتها قائلا : نعم ، اصطدت أرنباً .
وابتسمت أمي ، وقالت مازحة : لابدّ أنه أرنب عجوز ، خوّاف ، زأرت في وجهه ، فتهاوى على الأرض مغشياً عليه .
ارتحتُ لمزاحها الأمومي ، وقلت لها : كلا ، كان أرنباً ضخماً ، ناضجاً ، وقد طاردته و .. واصطدته .
ولاذت أمي بالصمت ، فنظرت إليها ، وهممت أن أسألها عن أختيّ ، لكني سكت حين قالت : أختاك تسألان عنك ، وتسلمان عليك .
أطرقتُ رأسي ، وقد دمعت عيناي ، فنهضت أمي ، وهي تقول : الوقت متأخر ، نم يا عزيزي ، أنت بحاجة إلى الراحة .
ونهضتُ بدوري ، وقلت : أشكرك ، يا أمي ، على قطعة اللحم ، لا تبحثي عني بعد اليوم ، فقد لا أبقى هنا غير هذه الليلة .

     " 4 "
ـــــــــــــــــــ
   غداً أو بعد غد ، قد تأتي أمي إلى هنا بحثاً عني ، بل ستأتي حتماً ، ولن تعود حتى تجدني ، وبين أسنانها قطعة دسمة من اللحم ، اقتطعتها من حصتها وحصة أختيّ المدللتين ، فأبي لن يتنازل ، ولو عن عظمة صغيرة ، لأي واحد منّا ، وخاصة لي .
وقد قالت أمي لي مرة ، وربما كانت غاضبة من أبي ، لسبب من الأسباب ، إنها كانت تخبئنا في صغرنا عن أبي ، وتنقلنا من مكان إلى آخر ، خوفاً علينا من أن يفتك بنا ، أو يفترسنا ، ولعل خوفها هذا لا أساس له ، فمهما كان الأمر ، فنحن أبناؤه .
ربما عليّ أن أبقى في الجوار ، لن أقرب أبي " ملك الغابة " ، بل لن أقرب العرين ، فقد أحتاج إلى رؤية أمي ورؤية أختيّ ، ولو من بعيد ، لا أدري ، إنني أحسدهما ، فهما ستبقيان إلى جانب أمي ، وحتى أبي ، لن يطلب منهما ، في يوم من الأيام ، أن تغادرا العرين ، يا للأسف ، قدري وحدي أن أغادرهم ، فأنا وإن كنت وحيداً .. أسد وليس لبؤة .
لا أدري متى غفوت ، ولكن حتى في منامي ، رأيتني أنهض مع الفجر ، وأشدّ الرحال بعيداً ، حيث تأوي الشمس ليلاً ، بعد أن سارت طول النهار ، فوق الجبال والتلال والسهول والبحار والبحيرات ، لتهوي أخيراً في فراشها وراء الأفق ، وتستغرق في نوم عميق .

     " 5 "
ــــــــــــــــــ
   مع الفجر ، وكما في المنام ، استيقظت وكأن أحداً أيقظني ، وبدأت مسيرتي بعيداً عن الغابة ، التي ولدت فيها ، وترعرعت بين أحضانها ، ودربتني أمي على الصيد وسط طرائدها ، الكثيرة اللذيذة .
وسرت قدما ، لا ألوي على شيء ، واجتزت تلالاً ومرتفعات صخرية وجداول وأجمات كثيفة الأشجار ، ورأيت الكثير من الطرائد الشهية ، رأيت أرانب وغزلاناً وطيوراً مختلفة ، لكني لم ألتفت إليها ، ولم أفكر في صيد أحد منها ، رغم حاجتي إلى الطعام ، فأمامي هدف ، وعليّ أن أصل إليه .
وعند غروب الشمس ، أويت إلى شجرة ، وتمددت قريباً منها ، وسرعان ما استغرقت في نوم عميق ، ولعل السير طول النهار ، قد أنهكني ، ونال من قواي ، وأحوجني إلى الراحة والنوم .
وحوالي منتصف الليل ، أفقت على وقع أقدام خفيفة تقترب مني ، وفتحت عينيّ المثقلتين بالنعاس ، وإذا لبؤة في عمر أمي تقريباً ، تقف على مقربة مني ، وتتطلع إليّ بعينين أموميتين ، واعتدلت قليلاً ، وعيناي تراقبانها ، فمالت عليّ ، وقالت : عفواً بنيّ ، أخشى أن أكون قد أيقظتك من النوم .
واعتلت في جلستي ، وقلت : لا عليكِ .
وابتسمت لي ، وقالت : لستَ من هنا ، يبدو أنك قادم من مكان بعيد . 
وهززت رأسي ، وقلت باقتضاب : نعم .
وصمتت اللبؤة قليلاً ، وهي تتأملني بعينيها الأموميتين ، وقالت بصوت حزين : لو بقي شبلي على قيد الحياة ، لكان الآن في عمرك تقريباً .
وصمتت ثانية ، ثم قالت بصوت تبلله الدموع : فتك به أسد شرس ، وافترسه .
لذت بالصمت ، ولاحت لي عينا أبي الغاضبتين ، يبدو أن الأسود كلها متشابهة ، وتراجعت اللبؤة ، وهي تقول : إنني في الجوار ، قريبة منك ، يا بنيّ ، نادني إذا احتجت إلى شيء . 
لم أناديها ، ولو أني كنت بحاجة إليها فعلاً ، فقد شعرت معها ، وكأن أمي إلى جانبي ، وتمددت ثانية ، وأغمضت عينيّ ، وسرعان ما رأيتني ألهو مع أختيّ المدللتين ، وأمي تنظر إلينا فرحة .

     " 6 "
ــــــــــــــــــــ
   في اليوم التالي ، استأنفتُ طريقي ، لعلي أصل  مغيب الشمس في حدود هذا اليوم ، لكني كلما سعيت للوصول إليه ، في حدود هذا اليوم ، لكني كلما سعيت للوصول إلى مغيب الشمس ، ابتعد عني ، حتى بدا لي أن     الوصول إلى المغيب أمر مستحي .                          

                       
                          
                         
  وعند حوالي منتصف النهار ، رأيت غزالة يتقافز صغيرها لاهياً ، بعيداً عنها ، ورحتُ أراقب ما حولي ، وقد بدأت بطني الفارغة تقرقر ، إنني جائع ، وهذا صيد لذيذ ، ووثبت راكضاً بسرعة صوب الخشف ، وما إن رآني حتى انطلق نحو أمه ، وهو يصيح : ماما .
وأسرعت أمه إليه ، واحتضنته ، وهي تصيح مستنجدة : بنيّ ..بنيّ .
وعلى حين غرة ، شعرت برأس صلب ، قويّ ، مسلح بشبكة من القرون ، ينطحني بقوة ، ويطرحني على الأرض .
ونهضت بسرعة ، وإذا ذكر غزال ضخم ، يسدد قرونه المتشعبة القاتلة نحوي ، وهو يقف بيني وبين الغزالة وخشفها الصغير .
وعلى الفور تراجعت بسرعة ، وعيناي الغائمتان متعلقتان بالغزال الذكر وقرونه القاتلة ، هذا هو الأب وإلا فلا ، واستدرتُ بحذر ، ثم مضيت مبتعداً .
وقبيل المساء ، انقضضتُ على أرنب عجوز ، كان يقضم جزرة في طرف أحد الحقول ، فافترسته وأسكت به جوعي ، ثم أويت إلى شجرة قريبة ، وسرعان ما استغرقت في نوم عميق . 

     " 7 "
ـــــــــــــــــــ
   أخيراً ، وبعد مسيرة عدة أيام ، انتهيتُ إلى أرض فسيحة ، معشبة ، بعضها مغمور بالمياه الضحلة الرقراقة ، تتقافز فيها الأرانب ، وترعى الغزلان ، وتسبح في مسطحاتها المائية مجموعات من البط والإوز والطيور الأخرى .
وتقدمت وسط الأعشاب المتطاولة الندية ، وخضت في المياه الضحلة الرقراقة ، وما إن شعرت الأرانب بوجودي ، حتى تقافزت خائفة ، واختفت بين الأعشاب ، وتوقفت الغزلان عن تناول الأعشاب ، ورفعت بعضها رؤوسها ، وراحت تنظر إليّ ، وسرعان ما اندفعت نحو المسطحات المائية ، ولاذت بالفرار .
أما البط والإوز والطيور الأخرى ، فقد سبحت بسرعة  مبتعدة عن الخطر ، وفتح البعض منها أجنحته ، وانطلق محلقاً في السماء ، ثم حط مطمئناً بعيداً عني .
وخرجتُ من الأرض المغمورة بالمياه ، ووقفت في بقعة مرتفعة بعض الشيء ، ونفضت المياه عن جسدي ، وانتبهت إلى الغزلان ، في الأرض المقابلة للأرض المغمورة بالمياه ، تنطلق هاربة ، ما الأمر ؟ ولمحت لبؤة فتية تمرق بين الأعشاب كالريح ، تطارد أحد الغزلان ، لكنها سرعان ما توقفت لاهثة ، وعيناها مازالتا تطاردان الغزال الهارب ، الذي واصل هربه ، حتى التحق بالقطيع .
واتجهتُ نحو اللبؤة ، لعلي أتعرف إليها ، لكنها ما إن رأتني ، حتى استدارت ، ومضت مبتعدة ، حتى غابت عني بين الأعشاب المتطاولة ، وتوقفت منصتاً بحذر ، فقد تناهت إليّ أصوات نخير غاضب منزعج ، إنها مجموعة من الخنازير البرية ، ترعى في الجوار ، فاستدرتُ مبتعداً ، وتراءت لي أمي تقول لي : بنيّ ، لا تحاول وأنت في هذا العمر ، أن تقترب من أي خنزير ، مهما كان عمره .

     " 8 "
ــــــــــــــــــ  
   تناهى إليّ ، وأنا أغالب النعاس ، تحت الشجرة ، التي آوي إليها كلّ يوم ، أصوات متداخلة ، ميزت بينها أصوات خنزير غاضب هائج ، مختلط بأصوات لبؤة متوجعة ، تبدو مغلوبة على أمرها .
وخشيت أن تكون هذه اللبؤة ، هي اللبؤة التي صادفتها مراراً ، وكانت تتجنبني دائماً ، وتسارع بالابتعاد عني ، كلما حاولت الاقتراب منها ، فنهضت من مكاني على عجل ، ومضيت صوب مصدر الصوت .
وتأكد لي ما خشيته ، فقد رأيت ذكر خنزير ضخم ، هائج ، غاضب ، ينهال ضرباً على اللبؤة برأسه الضخم الشائه ، ويطرحها على الأرض ، ويوسعها نطحاً وعضاً بأسنانه البارزة الحادة وكأنها الخناجر .  
وتراجع الخنزير الضخم قليلاً ، ثم انقض على اللبؤة  ثانية ، يريد الفتك بها ، وقد أثخنها بالجراح ، وعلى الفور ، أسرعت وقطعت عليه الطريق ، ولطمته على وجهه ، وأنشبت فيه أنيابي ومخالبي ، فتراجع والدماء تنزف منه ، ثم استدار ، ولاذ بالفرار .
وحاولت اللبؤة جهدها أن تعتدل ، وتقف على قوائمها ، وهي تئن وتتوجع ، دون جدوى ، ومن الواضح أن الخنزير الضخم ، قد أثخنها بالجراح ، ولو لم أهب لنجدتها ، لربما كان قد فتك بها ، وأرداها قتيلة .
ومددت يديّ لأساعدها على النهوض ، لكنها تراجعت عني ، وهي تقول بصوت واهن : لا ، دعني ، مازلت أقوى على النهوض .
وثانية حاولت النهوض ، وثانية لم تستطع ، فأطرقت رأسها لاهثة ، ونظرتُ إليها مليّاً ، ثم قلت : في اليومين الماضيين ، صادفتكِ أكثر من مرة ، لكنك دائماً كنت تتجنبينني ، وتبتعدين عني .
لم ترفع عينيها إليّ ، وصمتت قليلاً ، ثم قالت : إنني أكره الأسود .
وقلت كأنما أحدث نفسي : أبي لم يحبني ، لأني أسد .
ورفعت عينيها إليّ هذه المرة ، وقالت : في العام الماضي ، كان لي شبل ، كأنه القمر ، وذات يوم مرّ أسد غريب بهذا المكان ، وقد ملتُ إليه ، لكنه في إحدى الليالي ، تسلل إلى المكان ، الذي أخفيت فيه شبلي ، وفتك به دون رحمة .
لذت بالصمت ، فتحاملت اللبؤة على نفسها ، ثم مضت مبتعدة ، وهي تئن وتتوجع ، حتى غابت بين الحشائش المتطاولة ، ولبثتُ فترة في مكاني ، ثم مضيت إلى الشجرة ، التي اتخذتها مأوى لي .

     " 9 "
ــــــــــــــــــ 
   بيني وبين نفسي ، قررتُ أن لا أقترب من تلك اللبؤة ثانية ، فأنا أراها مخطئة تماماً ، فليس كلّ الأسود سواء ، وكذلك اللبؤات لسنا جميعاً سواء ، فأمي الحبيبة نفسها لبؤة ، وأي لبؤة ، أم بكل معنى الكلمة .
لكني شيئاً فشيئاً ، تراجعتُ عن قراري ، وبعد يومين لا أكثر ، رحت أحوم في المنطقة ، التي طالما رأيتها تتردد عليها ، لتقنص ما تسكتْ به جوعها ، إلا أني لم أرها في أي مكان من تلك الأماكن .
وفكرتُ أن الجروح البليغة ، التي أصابها بها الخنزير الضخم الشرس ، ربما منعتها من مغادرة مأواها ، وهذا يعني أنها لم تصطد شيئاً تسكتْ به جوعها ، هذا إذا كانت قد استطاعت الخروج إلى الصيد .
وتسللتُ قبيل غروب الشمس ، إلى مأوى اللبؤة الفتية ، وتوقفت على  البعد منها ، وراحت عيناي تمسحان المكان ، فلمحت اللبؤة متمددة تحت شجرة ضخمة ، وتناهى إليّ ، أو هذا ما تراءى لي ، صوتها وهي تئن وتتوجع ، نعم إن جراحها بليغة ، وهذا يعني أنها لم تخرج إلى الصيد فعلاً ، وأنها بالتالي تتضور جوعاً ، وبحاجة إلى ما تسكت به جوعها .
واستدرتُ مبتعداً عنها ، دون أن تحس بوجودي ، وعند غروب الشمس ، اصطدت خشفاً ، وبالأحرى اختطفته وهو يرضع من أثداء أمه ، وأخذته تحت جنح الظلام ، وزحفت به نحو الشجرة الضخمة ، التي كانت اللبؤة الفتية تتمدد على مقربة منها .
وتوقفتُ على مسافة قريبة ، وحدقت فيها على بقايا أضواء الغروب المتلاشية ، وبدا لي أنها مستغرقة في نوم عميق ، فاقتربت منها بهدوء ، ووضعت الخشف إلى جانبها ، ثم تراجعت بهدوء أيضاً ، وقفلت عائداً إلى مأواي ، تحت الشجرة . 

     " 10 "
ــــــــــــــــــــ
   أويتُ اليوم إلى شجرتي مبكراً ، وتمددت في مكاني ، وأغمضتُ عينيّ ، لم أكن أريد أن أنام ، رغم أنني كنت متعباً ، وتراءتْ لي أمي وأختاي المدللتان ، كما تراءت لي اللبؤة الفتية ، وتمنيت أن تكون قد انتبهت إلى الخشف ، وأسكتتْ به جوعها .
وبزغ القمر في داخلي ، وأضاء أعماقي بضوئه الدافىء ، آه من هذا القمر ، وفتحتُ عينيّ ، ها هو القمر يضيء من الأفق ، ويزحف شيئاً فشيئاً بضوئه الشاحب البارد في قبة السماء المعتمة ، لا أدري لماذا يذكرني هذا القمر بوجه اللبؤة الفتية ، ترى ماذا تفعل الآن ؟
وأغمضت عينيّ ثانية ، فلأبعد القمر واللبؤة الفتية ، لعلي أنام ، وأرتاح بعض الوقت ، فعليّ غداً أن أصطاد غزالاً أو حماراً وحشياً ، أو أي شيء ، فأنا لم أتناول لقمة واحدة  ، منذ يومين وربما أكثر .
لم أغفُ ، بل استيقظتْ حواسي كلها ، لكني لم أتحرك ، فقد تناهى إليّ وقع أقدام خفيفة ، تقترب مني بهدوء شديد ، أهي أمي ؟  أم إحدى أختيّ المدللتين ؟ أم .. ؟ مهما يكن فهذه ربما خيالات ما قبل النوم ، ومن الأفضل أن لا ألتفت إليها ، وأستغرق في النوم .
وعلى حين غرة ، بزغ القمر مضيئاً في أعماقي المظلمة ، ولفحتني أمواج رقيقة من الدفء ، أللخيالات أنفاس ؟ وحتى لو كان لها أنفاس ، فإن أنفاسها ليست دافئة كلّ هذا الدفء ، والتفت نحو مصدر الأنفاس الدافئة ، وفتحت عينيّ ، وإذا قلبي يخفق بشدة ، إنها هي ، القمر .. اللبؤة الفتية . 
وتطلعت اللبؤة إليّ ، وقالت : أشكركَ .
لم أجبها ، فتابعتْ قائلة : كنتُ بأمس الحاجة إلى ذلك الخشف ، الذي جلبته لي .
وصمتتْ لحظة ، ثم نظرت إليّ ، وقالت : الجو بارد ، إنني أرتجف .
فقلتُ لها : اقتربي مني ، وستدفئين .
واقتربت اللبؤة الفتية ، اقتربت مني ، اقتربت ..
وفي ليلة كهذا ، بعد حوالي عام ، والقمر نفسه يطل علينا من أعالي السماء ، كنّا متمددين جنباً إلى جنب ، أنا ولبؤتي ، دون أن يتفوه أيّ منّا بكلمة واحدة ، وعلى مقربة منا ، كان ثلاثة أشبال يغطون في نوم عميق .

ليست هناك تعليقات: