لنشر عملك بالمدونة Ahmedtoson200@yahoo.com



الأحد، 11 يونيو 2017

"أسماك الأعماق" قصة للأطفال بقلم: طلال حسن



أسماك الأعماق

بقلم: طلال حسن
    " 1 "
ــــــــــــــــــ
    لم يزرني منذ ثلاثة أيام ، وهذا ما لم يفعله من قبل ، ولا أريد أن يفعله في أي وقت ، فهو عادة لا يكاد يفارقني ، لا ليلاً ولا نهاراً .
ربما زعل مني ، لأنني لم أوافقه ، عندما أراد أن يزور السلحفاة العجوز ، التي كان يحب حكاياتها كثيراً ، ماذا أفعل ؟ إنني مشغولة بالتفكير في أعماق المحيط .
فلأذهب إليه ، وأصالحه ، وأرافقه إلى السلحفاة العجوز ، وحين هممتُ بالخروج ، رأيته قادماً ، فخرجتُ من المخبأ متهللة ، وقلتُ : أهلاً ومرحباً .
فردّ قائلاً : أهلاً بكِ .
فقلتُ بدلال : مهما يكن ، تعال نتجول ، ثم نذهب معاً ، إلى السلحفاة العجوز .
بدا مسروراً ، لكنه قال : أخشى أن تكون قد مضت إلى اليابسة ، فقد كانت البارحة ، تريد أن تزور صديقتها السلحفاة البرية .
فقلتُ ، وأنا أتقدمه سابحة ببطء : لنذهب إليها ، فقد نجدها ، ثمّ إن لديّ ما أحدثك به .
وسبح إلى جانبي بهدوء ، وهو يقول : ستحدثيني طبعاً عن .. أعماق المحيط وأسماكه .
ابتسمتُ ، وقلتُ : هذا ما يشغلني دائماً .

    " 2 "
ـــــــــــــــــــ
    وكما توقع ، لم تكن السلحفاة العجوز في بيتها ، في قاع البحر ،  ولعلها فعلاً ، ذهبت لتزور صديقتها ، السلحفاة البرية ، على اليابسة .
وبدل أن أعود معه إلى المخبأ ، توقفتُ قائلة : المكان هنا آمن ، لنتجول في الجوار .
فردّ قائلاً : كما تشائين .
وحرك زعانفه ، وسبح بهدوء إلى جانبي ، وقال : قلتِ أن لديكِ ما تحدثيني عنه .
لذتُ بالصمت ، فابتسم ، وقال : هيا حدثيني .
سبحتُ مقتربة منه ، وقلتُ بصوت متردد : لقد حدثتك مرة عن جدي . 
فقال : نعم ، حدثتني عنه ، لقد ذهب إلى أعماق المحيط ، ولم يعد .
وعلى الفور ، قلت مستدركة : لم يعد بعد .
والتفت إليّ ، وقال : جدكِ ليس صغيراً .
فقلتُ : هذا صحيح ، لكن جدتي ما زالت تنتظره ، وتقول إنه ، سيأتي حتماً .
ولاذ بالصمت ، فأضفتُ : تقول جدتي ، نحن في الأعماق المظلمة للمحيط غير منظورين ، ربما نرى نحن ، لكن أحداً لا يرانا .
وصمتُ لحظة ، ثم قلتُ : كما نادت أعماق المحيط جدي ، ولبى النداء ، فإنها تناديني ، ولابد أن أراها ، وأرى كائناتها الحية .
توقفتُ ، فتوقف هو الآخر ، فقلتُ : سأذهب إلى الأعماق ، وأريد أن تأتي معي .
ورمقني بنظرة سريعة ، ثم مضى دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، إنه يفكر ، أنا أعرفه ، ومادام يفكر في هذا الأمر ، الذي يتعلق بي ، فأنه سيوافق حتماً .





    " 3 "
ـــــــــــــــــــ
    جاءني صباح اليوم التالي ، وتوقف في مدخل المخبأ ، وقال : أنتِ واثقة ، أننا سنكون غير مرئيين في أعماق المحيط ؟
فأجبته قائلة : هذا ما أكدته جدتي لجدي .
فتساءل : وأنتِ ماذا تقولين ؟
فقلتُ له : أريد أن أهبط إلى أعماق المحيط .
وهزّ رأسه ، وقال : لن أدعكِ تهبطين وحدكِ ، هيا تعالي نهبط معاً .
وبدأنا رحلتنا نحو القاع ، ورحتُ طوال الوقت أتحدث ، وأثرثر ، لكنه قلما كان يردّ ، ومن يدري ، ربما كان يظن أنني مجنونة مثل جدي .
ولأني أردته أن يتكلم ، التفتُ إليه ، وسألته : ماذا سنفعل إذا عدنا من الأعماق ؟
فقال : لنعد أولاً .
وحدقتُ فيه ، وقلتُ بشيء من الحماس : سنرى الأعماق ونعود على الفور ، أريد أن نعيش معاً ، وقد أترك مخبئي ، ونعيش في مخبئك .
وسبح إلى جانبي ، ونحن نغوص نحو الأعماق ، وقال : ليس المهم أن نعيش في مخبئي أو مخبأك ، المهم أن نكون معاً .
آه .. لا أدري لماذا تندت عيناي بالدموع ، ولذتُ بالصمت ، وأنا أسبح على مقربة منه ، ومعاً سبحنا نحو الأعماق البعيدة ، سبحنا دون توقف ، وكلما توغلنا في أعماق المحيط ، رأيتُ الأضواء تخفت شيئاً فشيئاً ، حتى ساد الظلام التام . 

      " 4 "
ــــــــــــــــــــ
     ناديته ، وأنا أتلفتُ حولي في الظلام الدامس : هيْ ، حبيبي .
وربما شعر برعبي ، فردّ بصوت هادىء مطمئن : إنني هنا ، على مقربة منكِ .
واقتربت منه ، على هدى صوته ، وقلتُ : لنتكلم دائماً ، حتى لا يبتعد أحدنا عن الآخر .
وهمس لي ، وهو يلامسني : جدتكِ على حق ، إننا غير مرئيين فعلاً .
وصمت لحظة ، وإذ لم أردّ عليه ، تابع قائلاً : وكذلك لا نرى أي شيء .
وتطلعتُ حولي ، ثم قلتُ : من يدري ، ربما ليس هنا ما يمكن أن نراه .
وتمتم بدون اقتناع : من يدري .
هنا انبثقت نقطة ضوء من مكان ما ، فهتفتُ بصوت خافت : انظر .
وأجابني على الفور : هذا ضوء غريب ، وسط هذه العتمة التامة .
وانبثقت من الظلام ، نقطة ضوء أخرى , تختلف عن النقطة الأولى ، فهتف بي بصوت خافت منفعل بعض الشيء : انظري .
وقبل أن أردّ بشيء ، راحت تنبثق بالتدريج عشرات من بقع الضوء ، ووقفنا نحدق في هذه النقاط الضوئية ، المتراقصة ، المتحركة ، ثم التفتُ إليه ، وقلتُ : انظر ، يبدو أن هذه الأضواء تصدر من الأسماك ، التي تعيش في الأعماق .
وردّ دون أن يحول نظره عنها : حقاً إنها أسماك ، تحمل أنواراً ، ترى ما هي فوائد هذه الأضواء للأسماك في هذه الأعماق من المحيط ؟

    " 5 "
ـــــــــــــــــ
    على الأضواء الخافتة ، في ظلام الأعماق ، رأيتُ أسماكاً عجيبة ، بعضها لها عيون كبيرة جداً ، ربما لتستطيع أن ترى على الأقل أضواء رفيقاتها ، التي تومض من بعيد .
وبمرور الوقت ، عرفت أنه ليس لكلّ الأسماك هنا أضواء ، أو عيون كبيرة ، فبعضها لا نور فيها ، وبعضها الآخر لا عيون لها على الإطلاق ، ولابد أنها تتنقل ، وتصطاد ، بواسطة الشم أو اللمس .
ولاحت من بعيد سمكة طويلة ، نحيلة ، لها فم كبير مرعب ، فهمستُ ، وكأني أخشى أن تسمعني : هذه سمكة مفترسة ، مرعبة ، لنبتعد عن طريقها .
ولامسني برفق ، وهو يهمس لي : تعالي من هنا .
ابتعدنا عن تلك السمكة ، ورأيناها من بعيد ، تهاجم سمكة في حجمها تقريباً ، وفتحت فمها على سعته ، وسرعان ما ابتلعت تلك السمكة .
وكدتُ أصطدم في الظلام بما يشبه خيط شص صياد السمك ، لولا أنه أمسك بي ، ربما بالغريزة ، وأبعدني برفق عنه .
وهنا اقترب قريدس صغير ، ممن يعيش في الأعماق ، ولامس هذا الخيط ، وعلى الفور انبثقت سمكة شرهة  من الظلام ، والتهمته بسرعة فائقة .
لم نكد نبتعد قليلاً ، حتى بدت في الظلام سمكة غريبة المنظر ، كأنها كلها فم وعينان ومعدة ، تحمل على خياشيمها قضيباً في رأسه ضوء ، لابد أنها كانت تستخدمه لجذب الأسماك الأخرى ، وتوقعها في حبائلها ، وتلتهمها .
ويبدو أن هذه السمكة ، لمحت سمكة جرذية الذيل ، فانطلقت نحوها لتلتهمها ، لكن الأخيرة أحست بها ، فأطلقت مادة مضيئة لزجة ، من غدد موجودة في الأقسام السفلى من جسمها ، فاختلطت تلك المادة بالماء ، وأحدثت سحابة من نور ، يبدو أنه أبهر السمكة المهاجمة ، فلاذت السمكة الجرذية الذيل بالفرار .

    " 6 "
ـــــــــــــــــــ     
    فجأة ، وعلى الأضواء المتذبذبة ، الصادرة من أسماك الأعماق ، لاحت السمكة الطويلة النحيلة ، بفمها الكبير البشع ، الذي يشبه مغارة عميقة .
وتوقفت متلفتة ، وبدا لي للحظة ، أنها اكتشفت فريسة مغرية ، وقبل فوات الأوان ، اكتشفتُ أننا نحن تلك الفريسة ، التي اكتشفتها .
وشعرتُ به يدفعني جانباً ، وهو يصيح : اهربي ، هذه السمكة تتجه نحونا ، وستفترسنا .
وانطلقت بجنون نحو الأعلى ، أشق الظلام على غير هدى ، وقد استبد بي الرعب الشديد ، وبعد مدة ، لم أعرف كم استغرقت ، تباطأت لا لأني تعبت فقط ، بل لأني شعرت أن السمكة لم تعد تطاردني .
وتوقفت في الظلام ، وتلفتّ حولي منصتة ، لعلي أسمعه قادماً ، لكن دون جدوى ، فصحت بأعلى صوتي : هيْ ، أنا هنا ، أين أنت ؟
وأنصتُ ، أنصتُ ملياً ، لكني لم أسمع رداً ، وصحتُ ثانية وثالثة ، لكن دون فائدة ، ليكن ما يكون ، ليته فقط قد نجا من تلك السمكة الطويلة المتوحشة .
وشعرتُ بتيار من الماء يهزّ جسمي ، إنها تلك السمكة اللعينة ، أو سمكة أخرى من أسماك الأعماق ، وعلى الفور ، رحت أشق الماء إلى أعلى ، حيث الشمس والأمان ، آملة أن يلحق بي .
وبعد أيام ، من الصعود المستمر ، بدأ ضوء الشمس يصلني عبر ماء البحر ، ورغم حزني ، وقلقي ، وشعوري الشديد بالتعب ، تملكني الفرح .
ها قد عدتُ إلى النهار ، بعد أن عشتُ في ليل دامس أياماً طويلة ، رهيبة ، آه ترى ماذا جرى لرفيقي ؟ المسكين ، انقاد لي ، رغم إرادته ، ورافقني إلى تلك الأعماق الرهيبة .
لا خيار ، عدتُ إلى مخبئي ، ورحتُ أنتظره ، وبين فترة وأخرى ، رحتُ أخرج من مخبئي ، وأتجول على امتداد الجدار المرجاني ، أو أغوص قليلاً نحو الأعماق ، لعلي أراه قادماً ، لكن دون جدوى .
وأعود إلى مخبئي أنتظر ، مهما يكن ، لأنتظر ، إن جدتي ما زالت تنتظر ، فلأنتظر لعل انتظاري يثمر أكثر من انتظار جدتي ، وأراه يقبل عليّ ، من أعماق المحيط المظلمة .

ليست هناك تعليقات: