لنشر عملك بالمدونة Ahmedtoson200@yahoo.com



الثلاثاء، 22 مارس 2016

"الملكة " قصة للأطفال بقلم: طلال حسن



الملكة

طلال حسن

   " 1 "
ـــــــــــــ
    عند الصباح ، انطلقت العاملات إلى الغابة ، الواحدة بعد الأخرى . ولم يبق داخل الخلية ، سوى الملكة ، والنحلة العجوز، والصغار في حجرة التربية ، وكذلك التنابلة الذكور.
وتوغلت العاملات في الغابة ، وبينهن النحلة نون ، ورحن يتنقلن من زهرة إلى أخرى ، يرتشفن الرحيق ، ويجمعن غبار الطلع ، في سلال صغيرة على أرجلهن .
ومضت النحلة نون ، مبتعدة عن رفيقاتها ، رغم أن النحلة العجوز ، قد حذرتهن من التباعد ، خشية أن تضل إحداهن . أو تتعرض للخطر ، وخاصة من الزنابير .
إنها مهمومة ، ربما أكثر من غيرها ، فقد خرجت الملكة الجديدة من حجرة التربية ، وبدا أن المواجهة بينها وبين الملكة القديمة ، أمرٌ يصعب تجنبه ، مما يعرض الخلية نفسها للخطر .
وخفق قلبها بشدة ، حين لمحت زنبوراً ضخماً ، يمرق كالذئب الجائع ، بين شجيرات الورد ، باحثاً عما يسكت به جوعه ، فانطلقت بسرعة ، واختبأت في وردة كبيرة ، كثيفة الأوراق .

 " 2 "                                                                                

ـــــــــــ
وانتظرت بعض الوقت ، ثم همت أن تخرج ، وتحلق مبتعدة ، فقالت الوردة : مهلاً ، ابقي الآن .
فردت النحلة نون قائلة : لقد تأخرت ، لابد أن أعود إلى الخلية.
وتلفتت الوردة حولها ، وقالت : دليل العسل في الجوار ، وقد يتبعك إذا رآك .
وانتظرت النحلة نون بعض الوقت ، ثم أطلت بحذر من بين الأوراق ، وقالت : عليّ أن أذهب الآن ، وألحق برفيقاتي .
فقالت الوردة : كما تشائين ، لكن كوني حذرة ، فدليل العسل ماكر غدار .
وانطلقت النحلة نون مسرعة ، وبعد أن تجاوزت شجرة البلوط الضخمة ، شعرت أنه  يتبعها ، وخفق قلبها بشدة ، حين التفتت إلى الوراء ، نعم ، إنه هو ، دليل العسل .
هذا اللعين ، يريد أن يتبعها خلسة حتى الخلية ، ثم يسرع إلى الغرير ، ويدله عل مكان الخلية، وعندئذ يهاجمها الغرير ويدمرها ، وينهب ما فيها من شمع وعسل ، ويتسبب في قتل الكثير من النحل .
وعلى الفور ، انحدرت النحلة نون إلى شجيرة ورد ، واختبأت بين أغصانها ، وأوراقها الكثيفة . وحام دليل العسل، حول شجيرة الورد ، لعله يعثر على النحلة ، لكن دون جدوى. وبدل أن يولي مبتعداً ، حطّ على غصن شجرة قريبة ، وراح ينتظر .
لم تتحرك النحلة نون من مكانها ، رغم مرور الوقت ،وداخلها خوف من أن يبقى دليل العسل في مكانه ، حتى حلول الليل ، وتضطر للبقاء في العراء ، فيقتلها البرد .

 

  "  2  "

ـــــــــــــ
   توارت الشمس وراء الأفق ، وخيّم الليل فوق الغابة .وشيئاً فشيئاً راح الضجيج يخفت قي الخلية ، حتى كاد يتلاشى  ، ويسود الصمت .
وتمددت الملكة مجهدة ، ثم ألقت نظرة على النحلة العجوز ، وقالت : أرجو أن تكون العاملات قد عدن من الغابة .
فردت النحلة العجوز قائلة : اطمئني يا مولاتي ، لقد عدن جميعاً عدا .. النحلة نون .
وتنهدت الملكة ، وقالت : لا أدري ما الذي دهى هذه النحلة ، لقد كانت نشيطة منضبطة .
ولعل النحلة العجوز ، أرادت أن تهون الأمر على الملكة ، فقالت : لا عليك يا مولاتي ، سأتحدث إليها .
وأغمضت الملكة عينيها متأوهة ، وقالت : هذا إذا قدر لها أن تعود .
ولاذت النحلة العجوز بالصمت ، فقالت الملكة بصوت واهن : إنني متعبة ، سأنام .
عندئذ تراجعت النحلة العجوز ، ومضت إلى الخارج . وبدل أن تقصد حجرتها ، اتجهت نحو بوابة الخلية واقتربت من الحارسات، وقالت : أرجو أن لا يكون هناك ما يقلق .
فردت إحدى الحارسات : اطمئني يا سيدتي ، كلّ شيء على ما يرام .
وتساءلت النحلة العجوز : والنحلة نون ؟
فردت الحارسة : لم تعد بعد يا سيدتي .
وتنهدت النحلة العجوز ، وقالت : لننتظر ، قد تعود بعد قليل.
ولاذت الحارسات بالصمت ، فاستدارت النحلة العجوز ، ومضت متثاقلة إلى حجرتها .  ولم تكد تخطو بضع خطوات ، حتى لحقت بها حارسة ، وهتفت : سيدتي .
وتوقفت النحلة العجوز ، والتفتت إليها ، ورغم أنها حدست ما ستقوله ، تساءلت : نعم ؟
فقالت الحارسة: جاءت النحلة نون ؟
وتنهدت النحلة العجوز بارتياح ، وقالت : حسن ، سأكون في حجرتي ، فلتأتي إليّ .
وأقبلت النحلة نون ، بعد قليل ،على النحلة العجوز في غرفتها ، وقالت : نعم ، سيدتي .
وحدقت النحلة العجوز فيها ، وقالت : تأخرت اليوم أيضاً .
وردت النحلة نون : عفواً سيدتي ، هذا اليوم ..
وقاطعتها النحلة العجوز قائلة :الملكة سألت عنك ، إن همومها كثيرة ، ولا نريد أن نضيف إليها هماً آخر .
فقالت النحلة نون : لاحقني دليل العسل ، وخفت أن يعرف موقع الخلية ، فاضطررت أن أختبىء ، ووقف يترصدني على إحدى الأشجار ، ولم يغادرها حتى أوشكت الشمس على الغروب .
ولاذت النحلة العجوز بالصمت ، ثم نظرت إلى النحلة نون ، وقالت : كوني حذرة ، لا نريد أن تتعرض خليتنا للدمار ، والآن اذهبي إلى حجرتك ، وأخلدي إلى الراحة

 

"  3  "

ـــــــــــ
     استلقت النحلة العجوز في فراشها ، وأغمضت عينيها ، لكنها لم تنم ، صحيح أن العاملات ، والصغار ، وكذلك الذكور ، كانوا يشغلونها ، لكن ما يشغلها أكثر ، كانت .. الملكة .
وتقلبت في مكانها ، وقد استبد بها القلق ، ترى ما الذي تفكر فيه الملكة ؟ وما الذي يمكن أن تتخذه تجاه الملكة الجديدة ؟
ونهضت متثاقلة ، وخرجت من الحجرة ، ومضت تسير على غير هدى ، في ممرات الخلية . ورأت النحلة نون ، تقف أمام باب حجرتها ، فاقتربت منها ، وقالت : لم تنامي بعد .
وقالت النحلة نون : الجو خانق في الداخل .
وحدقت النحلة العجوز فيها ، وتساءلت : بنيتي ، ما الذي يقلقك ؟
فردت النحلة نون : ما يقلقك أنت يا سيدتي ، الملكة ، والملكة هي .. الخلية برمتها .
وربتت النحلة العجوز على كتفها ، وقالت : عزيزتي ، أنت شابة،  دعك من هذا ، اذهبي ونامي .
وتأهبت النحلة نون لدخول حجرتها ، وقالت : عمت مساء ، سيدتي .
ومضت النحلة العجوز مبتعدة ، وهي تقول : عمت مساء.
وأوت إلى فراشها ، لكنها لم تنم ، وكيف تنام وهي تعرف ، أن الملكة ربما لم  تنم ؟
وفي صباح اليوم التالي ، دخلت النحلة العجوز على الملكة ، وفوجئت بها تقف شاحبة مجهدة وسط الجناح ، فاقتربت منها ، وقالت : عمت صباحاً يا مولاتي .
ورمقتها الملكة بنظرة خاطفة ، وقالت : أرجو أن تكون النحلة نون قد عادت البارحة .
فردت النحلة العجوز قائلة : لقد عادت يا مولاتي ، ونبهتها أن لا تتأخر ثانية .
وهمهمت الملكة بصوت واهن : هممم ، هذا جيد .
وتناهت إليها ضجة من الخارج ، فرفعت رأسها ، وقالت : يا للضجيج ، الخلية لم تعد تحتمل .
فقالت النحلة العجوز : لا عجب يا مولاتي ، فالمواليد كثيرة ، وكلها صحة وعافية .
وحدقت الملكة فيها ، وتساءلت : والملكة الجديدة ؟
ولاذت النملة العجوز بالصمت ، فقالت الملكة : لابد أنها قوية وجميلة و ..
وصمتت الملكة ، فقالت النحلة العجوز : جميلة ، تشبهك ، يا مولاتي .
وتغاضت الملكة عما قالته النحلة العجوز ، وتابعت قائلة : هذه الخلية بحاجة إلى ملكة شابة ، وقوية .
وصمتت الملكة ثانية ، فقالت النحلة العجوز : إنها تشبهك في كلّ شيء .
وأطرقت الملكة لحظة ، ثم قالت بصوت متحشرج : عندما خرجت من حجرة التربية ، لم أرد مواجهة الملكة الأم ، لكنها ، ولسبب لا أعرفه ، هاجمتني ، فحاولت أن أحمي نفسي منها ، وإذا بها تسقط ميتة ، ربما بسبب الإجهاد ، فقد كانت مريضة ، ومتقدمة في السن .
وأطرقت رأسها مرة أخرى ، ثم قالت : دعيني وحدي ، أريد أن أرتاح .
"  4  "
ــــــــــــ
      أفاقت الملكة ، صباح اليوم التالي ، وإذا الصمت يكاد يعمّ الخلية ، ماذا جرى ؟ ، وهبت واقفة ، وصاحت بأعلى صوتها : أيتها النحلة العجوز .
وعلى الفور ، أقبلت النحلة العجوز ، وقالت : مولاتي .
وقالت الملكة منفعلة : أخبريني ..
واقتربت النحلة العجوز منها ، وقالت : مولاتي ، الوقت مازال مبكراً ، ليتك تعودين إلى فراشك ، وترتاحين .
وحدقت الملكة فيها ، وقالت : إنني لا أسمع ضجيجاً في الخلية ، ماذا جرى ؟
وتطلعت النحلة العجوز إليها ، وقالت مترددة : الملكة الجديدة غادرت الخلية ..
وشهقت الملكة قائلة : ماذا !
واستطردت  النحلة العجوز : وغادرت معها أعداد  كبيرة من النحل .
 وصاحت الملكة : ماذا تقولين ؟
 فردت النحلة العجوز قائلة : هذا ما جرى يا مولاتي ، فقد فضلت الملكة الجديدة ، أن تغادر الخلية ، وتؤسس خلية جديدة ، قرب شجرة البلوط .
وقالت الملكة بصوت مجهد حزين : يا إلهي ، أردتها أن تبقى، فلابد لهذه الخلية من ملكة شابة وقوية مثلها .
وقالت النحلة العجوز : مولاتي ، أنت مازلت ..
وقاطعتها الملكة قائلة : كلا ، أنا عجوز ، ومريضة ، وأنت تعرفين ذلك .
وأطرقت رأسها ملياً ، ثم رفعت رأسها إلى النحلة العجوز ، وقالت : أمرتك أن تبقي على ملكة جديدة واحدة ..
ولاذت النحلة العجوز بالصمت ، فقالت الملكة : أعرفك حكيمة ، محنكة ، اصدقيني ..
وانحنت النحلة العجوز أمامها ، وقالت : مولاتي ، أنت تعرفين ، أن بعض الملكات ، ولأسباب خارجة عن إرادتنا ، تموت داخل حجراتها .
وهزت الملكة رأسها ، وقالت : أعرف هذا ، تكلمي .
واستطردت النحلة العجوز : عفواً مولاتي ، لقد خالفت أمرك ، وأبقيت على ملكة أخرى .
وتنهدت الملكة بارتياح ، وقالت : حسناً فعلت ، أشرفي على العناية بها بنفسك ، أريدها ملكة شابة ، قوية ، معافاة .
فانحنت النحلة العجوز ، وقالت : أمر مولاتي .

 

"  5  "

ــــــــــــــ
     اعتكفت الملكة في جناحها ، ولم تسمح لأحد بزيارتها ، عدا النحلة العجوز .
واستبد القلق بالنحلة العجوز ، فالملكة قلما كانت تنام أو تأكل ، وكانت كلما زارتها في جناحها ، حدقت الملكة فيها ، وسألتها : كيف حال الملكة الجديدة ؟
فتجيبها النحلة العجوز : بخير يا مولاتي .
حتى كان يوم ، سألتها فيه كالعادة عن الملكة الجديدة ، فقالت النحلة العجوز : بخير يا مولاتي ، لكن ..
وتطلعت الملكة إليها مستفسرة ، قلقة ، فأضافت النحلة العجوز قائلة : النحل يتجمعون حولها يوماً بعد يوم ، وأخشى أن ..
وقاطعتها الملكة قائلة: فهمت ، حسن ، دعيني وحدي .
وهمت النحلة العجوز أن تتكلم ، فتابعت الملكة قائلة : لا أريد أن يزورني أحد الليلة في جناحي .
وتطلعت النحلة العجوز إليها مذهولة ، فقالت الملكة بشيء من الحدة : حتى أنت ، لا أريد أن تزوريني ، والآن اذهبي .
ورغم هذا قالت النحلة العجوز : مولاتي ..
 وقاطعتها الملكة بحزم : قلت لك اذهبي .
وانحنت النحلة العجوز ، وقالت : عفواً مولاتي ، كما تشائين ، عمت مساء .
لم ترقد الملكة في فراشها ، رغم مرضها ، وشعورها بالإجهاد ، وراحت تذرع جناحها ذهاباً وإياباً ، بخطوات مثقلة متعبة . وعند منتصف الليل ، فتحت الباب ، وغادرت جناحها ، ومضت عبر ممرات الخلية متجهة نحو البوابة الخارجية .
ويبدو أن النحلة العجوز ، قد خمنت ما ستقدم عليه الملكة ،فلم يغمض لها جفن ، وراحت تراقب باب جناح الملكة .
وحالما رأتها تغادر الجناح ، وتسير متثاقلة عبر الممرات ، تبعتها عن بعد ، لتتأكد مما قد تقدم عليه .
وعلى مقربة من البوابة الخارجية ، اقتربت النحلة العجوز من الملكة ، وقالت : مولاتي .
وتوقفت الملكة ، وهمست بصوت خافت : هش .
ثم التفتت إلى النحلة العجوز ، وقالت : ما الذي أيقظك في مثل هذا الوقت من الليل ، عودي إلى فراشك .
فقالت النحلة العجوز مترجية : مولاتي ، أرجوك ، الخلية بحاجة إليك .
وهزت الملكة رأسها ، وقالت : الخلية بحاجة إلى ملكة شابة ، قوية ، وها قد صار لها ما تحتاجه .
وبنبرات دامعة ، قالت النحلة العجوز : لو علم النحل في الخلية بما تريدين الأقدام عليه ، للحق معظمهم بك ، و..
وقاطعتها الملكة قائلة : كلا ، أريدهم أن يبقوا في الخلية ، فالخلية هي أنا ، ومن يحبني عليه أن يبقى ، ويخدم الخلية .
واغرورقت عينا النحلة العجوز بالدموع ، واستدارت الملكة ، وهي تقول : وداعاً .
ومن خلال دموعها ، رأت النحلة العجوز ، الملكة تفتح أجنحتها الشائخة ، وتنطلق محلقة ، وتتلاشى في ليل الغابة  .

ليست هناك تعليقات: